الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الهوامل والشوامل***
ويضعونه بين يديه وكلما ازداد ذلك الزاهد تمنعاً ازداد هؤلاء لجاجة فإن مات اتخذوا قبره مصلى وقالوا: كان كثير الصوم قليل الرزء وإذا عرض لهم من يأكل الكثير ويتذرع في اللقم مقتوه ونبدوه وكرهوا قربه واستسرفوا أدبه ولعلة ما هجر الناس زيارة مقابر الملوك والخلفاء ولهجوا بزيارة قبور أصحاب البت والخلقان وأهل الضعف والمسكنة. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ذلك لأن الإنسان بنفسه النامية يناسب النبات وبنفسه المتحركة بالإرادة يناسب البهائم وبنفسه الناطقة يناسب الملائكة فهو إنما فضل وشرف بهذه الأخيرة. والاغتذاء من خاصة النبات وإن كان يعم الحيوان أيضاً لأجل ما فيه من القوة النامية. فأما النفس الناطقة فلا حاجة بها إلى الأكل والشرب. ولما كانت الملائكة أشرف من الأنس لاستعانها بذاتها عن الغذاء وبقاء خروجها جوهرها - كان الإنسان المناسب لها بنفسه أكثر وأشرف من الإنسان الذي يناسب النبات والبهائم نسبة أكثر. وكما أن الإنسان يستخف بالنبات والبهيمة ويستخدمها ويعظم الملائكة ويسبحها فكذلك من الواجب في كل شيء كان مناسباً لتلك أن يكون مهاناً مستخفاً به وكلما كان مناسباً لهذا أن يكون معظماً مشرفاً. وهذا أبين من أن يبسط فيه قول ويتكلف له جواب ولكنا لم نحب الإخلال بالمسألة رأساً فلذلك علقنا فيه هذا القدر.
وآخر يولع بالتقتير مع علمه بقبح القالة فيه وما الفرق بين الرزق والملك فقد قال لي شيخ من الفلاسفة - وقد سمعنى أشكو الحال - يا هذا أنت قليل الملك كثير الرزق وكم من كثير الملك قليل الرزق أحمد الله عز وجل. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تقدم لنا في هذه المسائل كلام في السبب الذي يختار الناس له فعل ما تقبح عاقبته مع علمهم بذلك وضربنا فيه المثل بالمريض الذي يعلم أن تناول الغذاء الضار يبطل صحته فإن الغذاء إنما احتيج إليه للصحة فيختار للشهوة الحاضرة أخذ الغذاء الضار بسوء ملكته وضبطه لنفسه وانقياده للنفس البهيمية وعصيانه للنفس الناطقة. ولا وجه لإعادته. وكذلك قد بينا مائية الرزق والفرق بين الملك والرزق وإذا قرأته مما تقدم جواباً لهذه المسألة.
وآخر يظهر ما يكون منه ويتشنع به ويدل الناس على قليلة وكثيرة. وما معنى قول النبي - عليه السلام - (استعينوا على أموركم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود). الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مضى أيضاً جواب هذه المسألة فيما تقدم وكما يعرض للنفس في الأموال الشح والسماحة كذلك يعرض لها في المعلومات فمرة تسمح ومرة تضن وربما كان للإنسان شحيحاً بعلمه سمحاً بماله وبالضد. وقد تقدم جميع ذلك مستقصى حيث تكلمنا على السر فيما مضى.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: المدح تزكية للنفس وشهادة لها بالفضائل ولما كان الإنسان يحب نفسه رأى محاسنها وخفى عليه مقابحها بل رأى لها من الحسن ما ليس فيها فقبح منه الشهادة بما لا يقبل منه ولا يرى له. فأما غيره فلأجل غربته منه وخلوه من آفة العشق صارت شهادته مقبولة ومدحه مسموعاً. وربما كان هذا الغير يجري في محبة الممدوح مجرى الوالد والأخ والصديق الذي محله منه قريب من محل نفسه فعرضت له تلك الآفة بعينها أو قريب منها فقبح ثناؤه ومدحه ولم يقبل منه وإن كان دون قبح الأول أعني مادح نفسه لأن أحداً لا يبلغ في محبته غيره درجة محبته نفسه. فأما ما يجده الممدوح من المادح فهو حلاوة الإنصاف وتأدية الحق وسماع الكلام الطيب في
وما سبب مدحهم الجود مع قلة ذلك فيهم وهل الجود والبخل طبيعيان أو مكسوبان وهل بين البخيل واللئيم والشحيح والمنوع والنذل والوتح والمسيك والجعد والكز - فروق. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب ذم الناس البخل فلأن البخل منه الحق من يستحقه على الشروط التي تقدم ذكرها وهو في نفسه أمر مستقبح عند العقل وليس يمنع من استقباحه غلبته عليهم وهو خلق مذموم ومرض للنفس مكروه وكما لا يمنعهم ذم أمراض البدن وإن كانت موجودة لهم كذلك لا يمنع ذم أمراض النفس وإن كانت غالبة عليهم على أن الإنسان في أكثر الأمر يذم هذا العارض للنفس من البخل ولا يعترف أنه موجود فيه إلا إذا كان منصفاً من نفسه عارفاً بما لها وما عليها فقد سمعت جماعة من الأصدقاء يذمون أنفسهم بأمور ويشكون أنهم في جهد من مداواتها وحرص على إزالتها وان العادة السيئة قد أفسدت وأما سبب مدحهم الجود فلأن الجود في نفسه أمر حسن محبوب وقد مر حده فيما مضى وهو في النفس كالصحة في البدن فالناس يؤثرونه ويمدحونه وجد لهم أم لم يوجد. وأما قولك: هل الجود والبخل طبيعيان أم مكسوبان فإن الأخلاق بأجمعها ليست طبيعية ولو كانت كذلك لما عالجناها ولا أمرنا بإصلاحها ولا طمعنا في نقلها وإزالتها إذا كانت قبيحة ولكانت بمنزلة الحرارة والإضاءة في النار وبمنزلة الثقل والارجحنان في الأرض فإن أحداً لا يروم معالجة هذه الطبائع ولا إزالتها ونقلها ولكنا نقول: إنها - وإن لم تكن طبيعية - فإنها بسوء العادة أو بحسنها تصير قريبة من الطبيعة في صعوبة العلاج وإزالة الصورة من النفس. ولسنا نسميها خلقاً إلا بعد أن تصير هيئة للنفس يصدر أبداً عنها فعل واحد بلا روية فأما قبل ذلك فلا تسمى خلقاً ولا يقال: فلا بخيل ولا جواد إلا إذا كان ذلك دأبه. فأما الطفل والناشىء فقد يكون مستعداً بمزاج خاص له نحو قبول بعينه لكنه بؤدب ويعود الأفعال الجميلة لتصير صورة لنفسه وهيئة لها يصدر عنها - أبداً - ذلك الفعل المحمود كما يكون مستعداً لقبول مرض بعينه فيعالج بالأغذية والأدوية إلى أن ينقل من ذلك الاستعداد إلى ضده بتبديل المزاج إلى أن يصح ولا يقبل ذلك المرض. وأما قولك: هل بين الألفاظ التي عددتها فروق فلعمري أن بينها فروقاً: أما البخيل واللئيم فقد فرقنا بينهما فيما تقدم من أن اللؤم أعم من البخل لأن كل لئيم بخيل وليس كل بخيل لئيماً واللؤم لا يختص بالمال والأعراض حسب بل يكون في النسب والهمة والبخل خاص بالأخذ والإعطاء. وأما المسيك والمنوع فاشتقاقهما يدل على معناهما. وأما المجعد والكز فلفظتان مستعارتان مأخوذتان من الجمادات. وأما النذل والوتح فاسما مبالغه في الذم وكل واحد أبلغ من الآخر والنذالة أبلغ من القلة والوتاحة وفي مثل للعامة: فلان مقدد العرس وذكره بعينه أرسططاليس. ودلني على ان تلك اللغة وافقت هذه اللغة في هذا المثل أو أخذه قوم عن قوم. وهذا قد تجاوز البخل الذي هو منع الحق أهله على الشروط وانحط إلى غاية في معاملة نفسه أكثر من غاية البخيل في معاملة غيره.
وهل هما عرضان في أهل الجوهر ام مصطلح عليهما في العادة الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب استحسان الناس الوفاء حسنه في العقل وذلك أن الناس لما كانوا مدنيين بالطبع اضطروا إلى أمور يتعاقدون على لزومها لتصير بالمعاونة أسباباً لتمام أغراض أخر. وقد تكون هذه الأمور في الدين السيرة وفي المودة والمعاملة وفي الملك والغلبة وبالجملة في كل ما يحتاج فيه إلى التمدن وما يتم بالمعاونات فتقدم لها أسباب تعقد بينهم حالاً يراعونها أبداً في تمام ذلك الأمر فإذا ثبت عليها قوم ولزموها تمت أغراضهم وإذا زالوا عنها وخاس بعضهم ببعض فيها انتقضت عليهم الأغراض وانتقضت عن بلوغ التمامات. وبحسب الأمر المقصود بالتمام يكون حسن الوفاء وقبح الغدر فإن كان الأمر شريفاً كريماً عام النفع استشنع الغدر فيه واستحسن الوفاء وبالضد.
فإن العادة مشتقة من عاد يعود واعتاد يعتاد فكيف فزع الناس إلى أوائلها وجروا عليها وما هذا الباعث الذي رتب كل قوم في الزي وفي الحيلة وفي العبارة والحركة على حدود لا الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لعمري إن العادة من عاد يعود فأما السؤال عن مبادىء العادات وكيف نزع الناس إلى أوائلها وما كانت تلك الأوائل ومن شبق إليها ورتبها لكل قوم في الزى فأمر لا أضمن لك الوفاء فيه ولو ضمنه ضامن لي لما رغبت فيه ولا عددته علماً ولا كان فيه طائل.
الجواب: قال أو علي مسكويه - رحمه الله: ليست الشيخوخة والهرم نهاية نشوء الإنسان ولا غاية الحركة الطبيعية أعنى النامية فتروم - أيدك الله - أن يعود الشيخ في مسالكها إلى المبدأ الذي تحرك منه بل ينبغي أن تعلم أن غاية النشوء والحركة إنما هي عند منتهى الشباب ثم حينئذ يقف وذلك زمان التكهل ثم ينحط وذلك زمان الشيخوخة وذلك أن الحرارة الغريزية التي في الإجسام المركبة من الطبائع الأربع ما دامت في زيادة قوتها فهي تنشىء الجسم الذي هي فيه بأن تجتذب إليه الرطوبات الملائمة بدل ما يتحلل منها فتكون غذاء له ثم تبقى بقية جذبها فضل القوة - فاضلة عن قدر الغذاء الذي عوض من المتحلل فزادتها في مساحة الجسم ومددت بها أقطاره فإذا تناهت القوة وقفت فلم تزد في الأقطار شيئاً بل غايتها حينئذ أن تحفظ على ذلك الجسم أقطاره ومقداره بأن تغذية أعني أن تجتذب من الرطوبات مقدار ما يسري في الجسم عوضاً عما تحلل بلا زيادة تنصرف إلى التزييد والتمديد. ثم إن الحرارة تضعف قليلاً وتأخذ في النقصان بعد أن تقف وقفة في زمان التكهل فيبتدىء البدن في النقص ويصير الإنسان إلى الانحطاط عن تلك الحركة الأولى فلا يزال الغذاء ينقص عن مقدار الحاجة فلا يفي ما يعتاض من الرطوبة بما تحلل منها فهو كذلك إلى أن يهرم ويبلغ إلى الإنحلال الذي هو مقابل التركيب الذي بدأ منه وهو الموت الصحيح الطبيعي. وهذه سبيل كل حركة قهرية في أنها تبتدىء بتزيد ثم تنتهي إلى غاية ثم تقف وقفة ثم تنحط. ولما كان مزاج الإنسان وكل مركب من الطبائع المتضادة إنما كان بجامع جمعها وقاهر قهرها حتى ألفها مع تضادها ونفور بعضها من بعض - صارت حركتها قهرية ومن شأن الحركة القهرية ما ذكرت من أمرها إذا لم يتبعها القاهر أبداً بقهر بعد قهر. فوجب في حركة النشوء ما وجب في كل حركة من جنسها ولم يعد الشيخ كهلاً ثم شاباً ثم طفلاً لأن الحركة لم تقع على هذا النظام ولا الشيخوخة هي غاية الحركة بل هي غاية الضعف ونظير الطفولة. ووسط زمان الإنسان الذي بين الطفولة والشيخوخة هو غايته ثم العود في الانحطاط والحركة يكون على سبيل ما بدأ.
حتى يخطر ذلك المعنى على قلبه ويلهج بذكره في قوافيه ونثره ولم إذا لم يكن التشبيه واقعاً والمعنى فيه بارعاً - أورث الصدود ومنه الاستحسان. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الذي يجده الإنسان من ذلك هو السرور بصدق التخيل وحسن انتزاع الصور من المواد حتى تأحدت الصورة بعد أن كثرتها المادة. وذلك أن تشبيه الخوخة بالحمصة هو انتزاع الشكل الذي وجدفي مادتيهما وملاحظتهما شيئاً واحداً وإن اختلفت به المواد في الكبر والصغر والرطوبة واليبوسة واللون والمذاق وغيرها من الأعراض. والتفطن لذلك وتجريد الصور من المواد ورد بعضها إلى بعض من خاص فعل النفس فالشرور به سرور نفساني فلذلك يلهج به كما يلهج بما يظفر إذا كان طبيعياً بل هذا أشرف وأفضل.
ولم لم تصح الرؤى كلها أو لم لم تفسد كلها وعلام يدل ترجحها بين هذين الطرفين فلعل في ذلك سراً يظهر بالامتحان. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد صح وثبت من المباحث الفلسفية أن النفس أعلى من الزمان وأن أفعالها غير متعلقة بشيء من الزمان ولا محتاجة إليه إذ الزمان تابع للحركة والحركة خاصة بالطبيعة وإذا كان ذلك كذلك فالأشياء كلها حاضرة في النفس سواء الماضي والمستقبل منها فهي تراها بعين واحدة والنوم إنما هو تعطيل النفس بعض آلاتها إجماماً لها - أعني بالآلات الحواس - وهي إذا عطلت هذه الحواس بقيت لها أفعال أخر ذاتية خاصة بها من الحركة التي تسمى رؤية وجولاناً نفسانياً. وهذه الحركة التي لها في ذاتها تكون لها بحسب حالين: إما إلهياً وهو نظرها في أفقها الأعلى وكما أنها إذا كانت مستيقظة ترى بحاسة العين الشيء مرة رؤية جلية ومرة رؤية خفية بحسب القوة الباصرة من الحدة والكلال وبحسب الشيء المنظور إليه في اعتدال المسافة وبحسب الأشياء الحائلة بينها وبينه من الرقة والكثافة. وهذه أحوال لا يستوي فيها النظر بل ربما نظر الناظر بحسب واحدة من هذه العوارض إلى حيوان فظنه جماداً وربما ظنه سبعاً وهو إنسان وبما ظنه زيداً وهو عمرو فإذا زالت تلك الموانع وارتفعت العوائق أبصرها بصراً تاماً - كذلك حالها إذ كانت نائمة أي غير مستعملة آلة الحس إنما ترى من الشيء ما يحصل من الرسم الأول - أعني الجنس العالي الشامل الأشياء التي هو عام لها - ثم لا يزال يتخلص لها بصورة بعد صورة حتى تراه صريحاً بيناً فإن اتفق أن ترى من الشيء رسمه احتيج فيما تراه إلى تأويل وعبارة وإن رأته مكشوفاً مصرحاً كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التفسير بل يكون الشيء بعينه الذي رأته في النوم هو الذي ستراه في اليقظة. وهذا هو القسم الذي لها بحسب نظرها السريع الشريف الذي من أفقها الأعلى وبه تكون الإنذارات والرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة. فأما القسم الآخر الذي لها بحسب نظرها الأدون من أفقها الأسفل فإنها تتصفح الأشياء المخزونة عندها من الصور الحسية التي إنما استقتها من المبصرات والمسموعات بالحواس وهي منثورة لا نظام لها ولا فيها إنذار بشيء وربما ركبت هذه الصور تركيباً عبثياً كما يفعله الساهي أو العابث من أفعال لا يقصد بها غرضاً كالولع بالأطراف وبما يليها من الأشياء ولا فائدة له فيها. وهذه الرؤى لا تتأول وإنما هي الأضغاث التي سمعت بها.
وما الذي يرى وما يرى وما الذي يرى ما يرى النفس أم الطبيعة أم الإنسان وأكره أن أرقى إلى البحث عن النفس وتحقيق شأنها وما قال الأولون والآخرون فيها. وإذا كان هذا معجزاً وعن الطاقة بارزاً فما ظنك بالبحث عن العقل وأفقه أعلى وعالمه أشرف وآثاره ألأطف وميزانه أشد اتصالاً وبرهانه أبعد مجالاً وشعاعه أقوى سلطاناً وفوائده أكثر عياناً. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس ترى عند غيبة المرئيات ما تراه من وهذه حال يجدها الإنسان من نفسه ضرورة لا يمكنه أن يدفعني عنها وإلا فمن أين لنا صورة بغداد وخراسان والبلاد التي شاهدناها مرة ثم منازلنا بها وصور أصدقائنا فيها وجميع ما نتذكره منذ الصبي لولا حصول هذه الصورة في الحاس المشترك سيما وقد تبين بياناً لا ريب فيه أن البصر وسائر الحواس إنما هي انفعالات من المحسوسات واستحالات إليها وهذه الاستحالة لا تثبت بعد زوال المحسوس المخيل فلولا هذا الحاس المشترك العام الذي تثبت فيه صور المحسوسات ولا تزول لكنا إذا أبصرنا شيئاً أو سمعناه ثم زال عن بصرنا وسمعنا زالت عنا صورته ألبتة حتى لا يمكننا أن نعرف صورته إلا إذا وقعت أبصارنا وأسماعنا عليه ثانياً ولكنا أيضاً مع أبصارنا له ثانياً وثالثاً لا نعلم أنه الأول وكذلك المسموعات. ولولا أننا نستثبت صورة المحسوسات أولاً أولاً في هذه القوة - أعني الحاس العام المشترك - لكنا لا نستفيد بالقراءة ورؤية الرقص والحركات كلها التي تنتهي مع آنات الزمان شيئاً ألبتة لأن البصر مستحيل بقراءة الحرف بعد الحرف وبالحركة بعد الحركة فلا تثبت الحالة الأولى من استحالتها ولو ثبت الأولى لما حصلت الثانية لكن الأمر بالضد في وجودنا هذه الصور بعد مفارقتها كأنها نصب عيوننا تراها النفس. وهذه الرؤية التي تسمى تذكراً في اليقظة هي بعينها تسمى في النوم رؤيا ولكن هناك حال أخرى زائدة على حال اليقظة لأن قوى النفس عند تعطيل الحواس تتوفر على الرؤية فترى أيضاً الأشياء الآتية في الزمان المشتقبل: إما رؤية جلية وإما رؤية خفيفة كالرسم. واشتقاق هذه الألفاظ يذلك - أيها الشيخ اللغوي أيدك الله - أن المعنى فيها واحد لأن الرؤية والروية والرؤيا - وإن اختلفت بالحركات - فهي متفقة بالحروف وكذلك إذا قلت: رأى فلان وارتأى وروى فهذه صورة الأسماء المشتقة وأنت تعرف أحكامها لدربتك بها. وكذلك الحال في أبصر واستبصر وفي البصر والبصيرة. فأما لفظة النظر فإنها استعملت بعينها في الأمرين جميعاً من غير زيادة ولا نقصان فقيل لما كان بالحس: نظر ولما كان بالعقل: نظر من غير تغيير لحركة ولا تبديل لحرف. فقد تبين ما الرؤيا وما الذي يرى وما الذي يرى: أما الرؤيا ملاحظة النفس صور الأشياء مجردة من موادها عند النوم. وأما الذي يرى فالنفس بالآلة التي وصفناها. وأما الذي يرى فالصورة المجردة. وقد مر في المسألة المتقدمة كيف يكون بعض المنام صادقاً وبعضه كاذباً وبعضه إنذاراً وبعضه أحلاماً وبعضه أضغاثاً ولكن بغاية الإيجاز لأنا لو شرحنا هذه المواضع لاحتجنا إلى تصنيف عدة كتب نقرر فيها الأصول ونلخص بعدها الحروف ولكن الشرط سبق بغير هذا وسرعة فهمك أمتع الله بك - وقبولك لما يشار به - يقتضي ما رأيناه ووأيناه.
ولا تجاوز بينهما في الدار كواحد من فرغانة وآخر من تاهرت وهذا طويل قويم وهذا قصير دميم وهذا شخت عجف وهذا علج جلف وهذا أزب أشعر وهذا أمعر أزعر وهذا أعيا باقل وهذا أبلغ من سحبان وائل وهذا أجود من السحاب إذا سح بودق بعد برق وهذا أيخل من كلب على عرق إذا ظفر بعرق وبينهما من الخلاف والاختلاف ما يعجب الناظر إليهما والفاحص عن أمرهما. وعلى ذكر الخلاف والاختلاف ما الخلاف والاختلاف وما الإلف والائتلاف نعم ثم لا تراهما إلا متمازجين في الأخذ والإعطاء والصدق والوفاء والعقد والولاء والنقص والنماء بغير نحلة عامة ولا مقالة ضامة ولا حال جامعة ولا طبيعة مضارعة. ثم هذا التصافي ليس يختص ذكراً وذكراً دون ذكر وأنثى ودون أنثى وأنثى. وإذا تنفس الاعتبار أدى إلى طرق مختلفة: منها أن التصافي قد يمتد وقد ينقطع ففيما يمتد ما يبلغ آخر الدهر وفيما ينقطع ما لا يثبت إلا شهراً أو أقل من شهر. ومن أعجب ما ينبع منه العداوة والشحناء والحسد والبغضاء حتى كأن ذلك التصافي كان عين التنافي وحتى يفضي إلى عظائم الأمور وإلى غرائب الشرور وإلى ما يفتي التالد والطارف ويأتي على البقية المرجوة. وربما سرت العداوة في الأولاد كأنها بعض الإرث وربما زادت على ما كانت بين الآباء. وهذا باب عسر وللتعجب فيه مجال وموقع والعلل فيه مخبوءة. وقلما تصيب في زمانك هذا ذهناً يولع بالبحث عن غامضه ويلهج بالمسألة عن مشكله. وليتهم إذ زهدوا في هذه الحكم لم يقذفوا الخائضين فيها والمنقبين عنها بالتهم!!!. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب الصداقات بين الناس ينقسم أولاً إلى قسمين عاليين وهما أسباب الذاتي والعرضي. ثم ينقسم كل واحد منهما إلى أقسام وبحسب أقسام المودات تنقسم أيضاً أسباب العداوات. وإذا عرف أحد المتقابلين عرف مقابله الآخر لأن أقسامه كأقسامه. أما السبب الذاتي من أسباب التصافي فهو السبب الذي لا يستحيل ويبقي ببقاء الشخصين فأما المزاج فقد يوجد بين الإنسانين وبين الهيمتين فإن تشاكل الأمزجة يؤلف ويجذب أحد المتشاكلين بها إلى الآخر من غير قصد ولا روية ولا اختيار كما تجد ذلك في كثير من أنواع البهائم والطير والحشرات. وكذلك تجد بين الأمزجة المتباعدة عداوات ومنافرات من غير قصد ولا روية ولا اختيار وإذا تصفحت ذلك وجدته أكثر من أن يحصى. وإن ارتقيت من الأمزجة إلى البسائط من الأمور وجدت هذا مستمراً أيضاً فيها - أعني المشاكلة والمحبة والمنافرة والعداوة - فإن بين الماء والنار من المنافرة والمعاداة وهرب كل واحد منهما من صاحبه ليبعد عنه ثم ميل كل واحد منهما إلى جنسه وطلبه لشكله ليتصل به - أمر لا خفاء به على أحد. فإن انضاف إلى ذلك مزاج مناسب بتأليف موافق ظهر السبب وقوى كما يوجد حجر المغناطيس والحديد وبين حجري الخل أعني محب الخل وباغض الخل. وفي الحيوان من هذا المعنى شيء كثير بين لا يحتاج إلى تعديده وإطالة الجواب بذكره. وإذا كان اتفاق الجسمين يوجب المودة بالجوهر وبالمزاج الخاص فكم بالحرى أن يوجبها اتفاق النفسين إذا كان بينهما مناسبة ومشاكلة. وأما الأسباب العرضية فهي كثيرة وبعضها أقوى من بعض: فأحد أسباب المودة العرضية العادة والإلف. والثاني الأمر النافع أو المظنون به النفع. والثالث اللذة والرابع الأمل والخامس الصناعات والأغراض والسادس المذاهب والآراء والسابع العصبيات. ثم طول مكث أحد هذه الأسباب وقصره علة طول المودات وقصرها. ومثال النافع مودات الأتباع أو الخدم وأربابهم وأصحاب الشركة والتجارات وطلاب الأرباح والمكاسب. ومثال اللذيذ مودة الرجل والمرأة على أن هناك أيضاً مودة النافع ومودة الآمل فهو لذلك قوى وثيق ومودة المتعاشقين المتعاشرين على المأكول والمشروب والمركوب وما أشبه ذلك. وأما مثال الرجاء والأمل فكثير ولعل مودة الوالدين للولد فيها شيء من هذا الضرب لأنه متى زال الأمل وقوي اليأس انتفيا من الولد وزالت المودة وحدث البغض. فأما مودة الولد فالنفع لا غير ثم يصير مع ذلك أيضاً إلفاً. ولست أقول إن الأسباب كلها مودة الوالدين ما ذكرته فإن هناك أسباباً أخر طبيعية ولكن ومثال الصناعات والأغراض كثير ظاهر لا يحتاج إلى ذكره مع ظهور. ومثال النحل والعصبيات كذلك أيضاً في البيان والظهور. وهذه الأقسام محصورة تحت قوى النفس البهيمة والغضبية والناطقة. فما كان منها عن نسبة ومشاكله بين النفس النامية والبهيمة كان منه أسباب المودة للذيذ أو النافع. وما كان منها بسبب مشاكلة بين النفس الغضبية كان منه أسباب المودة للغلبة كالاجتماع للصيد والحرب وسائر العصبيات التي تكون فيها قوة الغضب. وما كان منها عن نسبة ومشاكلة في النفس الناظقة كان منه المودة التي للدين والآراء. وهذه تتركب وتنفرد فكلما تركبت وكثرت الأسباب قويت المودة وكلما تفردت ضعفت المودة ويكون زمان المكث بحسب ذلك أيضاً. وأقوى الأٍسباب المفردة العرضية ما كان عن النفس الناطقة ويتلوه ما كان عن النفس الغضبية. وأنت تستقرىء ذلك وتتبينه لئلا يطول الجواب فيخرج عن الشرط الأول من تحري الإيجاز. وجميعها يزول بزوال أسبابها وليس منها شيء ثابت لا يزول إلا الجوهري الذاتي إما نفساً وإما طبيعة. فقد رأيت أصحابه يتناهبون الكلام فيه حتى قال قوم: هو معرفة الشيء على ما هو به. وقال آخرون: هو اعتقاد الشيء على ما هو به. وقال قائلون: هو إثبات الشيء على ما هو به. فقيل لصاحب القول الأول: لو كان حد العلم معرفة الشيء على ما هو به لكان حد المعرفة على الشيء على ما هو به والحاجة إلى تحديد المعرفة كالحاجة إلى حد العلم. وهذا جواب فيه سهو وإيهام. وقيل لصاحب القول الثاني: إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فبين أن كون الشيء على ما هو به سبق الاعتقاد ثم اعتقد والاعتقاد سبق كون الشيء على ما هو به فإن ما هو به هو المبحوث عنه ومن أجله وضع العيار ولزم الاعتبار. فقال المجيب مواصلاً لكلامه الأول: هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس وثلج الصدر. فقيل له: إن الاعتقاد افتعال من العقد يقال: عقد واعتقد والكلام عقد والتاء عرض لغرض ليس من سوس الكلمة فإذن هو فعل مضاف إلى العاقد الذي له عقد والمعتقد الذي له اعتقاد والمسألة لم تقع عن فعل وإنما وقعت عن العلم الذي له قوام بنفسه وانفصال من العالم ألا ترى أن له اتصالاً به فهب أنك تحده باعتقاد الإنسان الشيء ما دام متصلاً به فما حقيقته من قبل ولما يتصل به وهذا جواب المعتزلة ولهم التشقيق والتمطيط والدعوى والإعراب والعصبية والتشيع. وقيل لصاحب هذا الجواب: لو كان العلم اعتقاد الشيء على ما هو به لكان الله معتقداً للشيء على ما هو به لأنه عالم. فقال: إن الله - تعالى ذكره - لا علم له لأنه عالم بذاته كما هو قادر بذاته حي بذاته. فقيل له: إنك لم تمانع في هذه الحاشية فلا تتوار عن السهم إن كان حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به فحد العلم أنه معتقد للشيء على ما هو به. وسيؤنف النظر: هل له علم أم ليس له علم فراغ هكذا وهكذا. وقيل لصاحب القول الثالث: إثبات الشيء عبارة مقصورة على إضافة فعل إلى الفاعل والفعل هو الإثبات والفاعل هو المثبت وباب العلم والجهل والفطنة والعقل والنهي والدرك - ليس من الأفعال المحضة وإن كانت مضارعة لها كمضارعة طال ومات ونشأ وشاخ واستعر وباخ. وهذا البحث متوجه إلى صاحب القول الرابع أعني في قوله: حد العلم إدراك الشيء على ما وينبغي أن تعلم أن الغرض في حد الشيء هو تحصيل ذاته معراة من كل شائبة خالصة من كل مقذية بلفظ مقصور عليها وعبارة مصوغة لها وما دامت عين الشيء ثابتة في النفس ماثلة بين يدي العقل فلا بد للمنطق من أن يلحق منها الحقيقة أو يدرك أخص الخاصة. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الأجوبة المحكية والاعتراضات عليها فأنا معرض عن جميعها إذ كان هؤلاء القوم الذين حكي عنهم ما حكى لا يعرفون صناعة التحديد وهي صناعة تحتاج إلى علم واسع بالمنطق ودربة - مع ذلك - كثيرة. وغاية ما عند هؤلاء القوم في التحديد إبدال اسم كان اسم بل ربما كان اسم الشيء أوضح من الحد الذي يضعونه له. وهذه سبيلهم في جميع ما يتكلفونه إلا ما كان مأخوذاً من المتقدمين ومنقولاً عنهم نقلاً صحيحاً كحد الجسم والعرض وما أشبههما. فأما ما تكلفوه من الحدود فهو بالهذيان أشبه. وأقول إن الحد مأخوذ من جنس الشيء المحدود القريب منه وفصوله الذاتية المقمومة له المميزة إياه عن غيره. فكل ما لم يوجد له جنس ولا فصول مقومه فإنما يرسم. والرسم يكون من الخواص اللازمة التي أشبه بالفصول الذاتية فلذلك ما نحد العلم بأنه إدراك صور الموجودات بما هي موجودات. ولما كانت الصور على ضربين: منها في هيولى ومادة ومنها مجردة خالية من المواد - صار إدراك النفس أيضاً على ضربين: أحدهما بالحواس وهو إدراكها لما كان في مادة. والآخر بغير الحواس بل العين الباطنة الروحانية التي تقدم الكلام فيها في بعض المسائل المتقدمة. فاسم العلم خاص بإدراك الصور التي في غير مادة. واسم المعرفة خاص بإدراك الصور ذوات المواد. ثم يستعمل هذا مكان هذا الاتساع في اللغة. ووجدتك دق اعترضت على أجوبة من لم ترتض جوابه باعتراضات يجوز أن تظن أنها لازمة لجوابنا هذا فلذلك احتجت إلى الكلام عليها فأقول: إن من شأن الحد أن ينعكس على المحدود وذاك أن الاسم والحد جميعاً دالان على شيء واحد لا فرق بينهما إلا في أن الاسم يدل دلالة مجملة والحد يدل دلالة مفصلة مثال ذلك أن تقول في حد الجسم: إنه الطويل العريض العميق أو تقول: هو ذو الأبعاد الثلاثة ثم ينعكس ذلك: إن الطويل العريض العميق هو الجسم أو ذو الأبعاد الثلاثة هو الجسم. وكذلك تقول في سائر الحدود الصحيحة ولهذا تقول في العلم: إنه إدراك صور الموجودات وتقول أيضاً: إدراك صور الموجودات هو العلم فلا يكون بينهما فرق إلا أن العلم يدل دلالة إجمال وحده يدل دلالة تفصيل على ما قدمناه ذكره وبيانه. وإذا بان أن العلم إدراك وتصور فقد بان أنهما انفعال لأن الصور إنما تكون موجودة: إما مجردة عقلية وإما مادية حسية وإذا أدركتها النفس فإنما تنقلها إلى ذاتها نقلاً لتنطبع تلك الصور فيها وإذا انطبعت فيها تصورت بها. وهذا مستمر في المحسوس والمعقول. وإذا بان هذا فقد بان أنه من باب المضاف لأن الإدراك أثر يقع بالمنفعل من الفاعل وكذلك التصور. والأشياء التي من باب المضاف لا سبيل إلى وجودها منفردة ولا إلى تحصيل ذواتها معراة من كل شائبة كما طالبت خصمك به لأنها لا عين لها ثابتة في النفس مائلة بين يدي العقل إلا من حيث هي مضافة فالمعلوم إذن يتقدم العلم تقدماً ذاتياً وكذلك المحسوس يتقدم الحاس بالذات. والفرق بين التقدم الذاتي والتقدم العرضي والزماني بين في غير هذا الموضع وإن كانا معاً فأما ما ألزمته في خاصتك في الله - تعالى عن صفات المخلوقين - فقد عرفت مما تقدم من المسائل أنا لا نقول فيه - تقدس ذكره - إنه عالم بالحقيقة التي نقولها في العالم منا ولا نطلق شيئاً من صفاته بالمعاني التي نطلقها في غيره بوجه من الوجوه وإنما نتبع الشريعة ونتمثل ما تأمر به ونسميه بأحب الأسماء ونصفه بأعظم الصفات التي نتعارفها نحن معاشر البشر لأنه لا سبيل لنا إلى غير ما نعرفه فيما بيننا ولا طريق لنا إلا ما يستحقه - عز وجل - ذاته لأنا لا نعلم بالحقيقة منه شيئاً إلا الإنية المحض حسب. ثم جميع ما يشار إليه بعقل أو حس فهو مخلوق له. وإذا كان الأمر كذلك ووجدنا الشريعة قد رخصت في أسام وصفات ممدوحة عظيمة بين البشر - ائتمرنا للشرع فأطلقناها من غير أن نرجع بها إلى الحقائق المعروفة من اللغة والمعاني المحصلة بها. وهذا موضع قد أومأت إليه فيما سلف وأعلمتك وجه الصعوبة فيه. والله الموفق والمعين ولا قوة إلا به.
قال: والله ما رأيت هذا قط ولا سمعت مثل هذا قط ولا سمعت مثل هذا قط وقد علم أنه سمع أطيب من ذاك وأبصر أحسن من ذاك. الجواب: قال أبو علي مسكويه: رحمه الله: أما بحسب الفقه أو مقتضى اللغة فهو غير حانث ولا مخطىء لأن شيئاً لا يماثل شيئاً بالإطلاق ولا يقال في شيء: هذا مثل هذا إلا بتقييد فيكون مثله في جوهره أو كميته أو كيفيته أو غير ذلك من سائر المقولات وقد يماثله في اثنتين منها وأكثر فأما في جميعها فمحال. فهذا وجه صحة قول الإنسان: والله ما رأيت مثله. فأما من جهة أخرى - وهي جهة طبيعية - فإنك تعلم أن الحس سيال بسيلان محسوسه فإذا استثبت صورة ثم زالت عنه وحضرت أخرى شغلته وثبتت بدل الأخرى فلا يحصر الحس إلا ما قد أثر فيه دون ما قد زال وإنما حصلت الأولى في الذكر وفي قوة أخرى وربما لم يجتمعا أو لم يحضر الذكر فيكون قول الإنسان على حسب الحاضر وحضور الذكر أو غيبته.
والفكر الطارد للنوم والخيال الماثل للإنسان أهذه كلها من آثار الطبيعة أم هي من عوارض النفس أم هي من دواعي العقل أم من سهام الروح أم هي خالية من العلل جارية على الهذر! وهل يجوز أن يوجد مثل هذه الأمور الغالبة والأحوال المؤثرة على وجه العبث وطريق البطل. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب الاستحسان لصورة الإنسان فكمال في الأعضاء وتناسب بين الأجزاء مقبول عند النفس. وهذا الجواب غرضك من المسألة التي هي متوجهة نحو الصورة الإنسانية المعشوقة دون غيرها. وأقول: إن الطبيعة مقتفية أفعال النفس وآثارها فهي تعطي الهيولى والأشياء الهيولانية صوراً بحسب قبولها وعلى قدر استعدادها وتحكي في ذلك فعل النفس فيها - أعني في الطبيعة - ولكنها هي بسيطة فتقبل من النفس صوراً شريفة تامة فإذا أرادت أن تنقش الهيولى بتلك الصور أعجزت الأمور الهيولانية عن قبولها تامة وافية لقلة استعدادها وعدمها القوة الممسكة الضابطة ما تعطاه من الصور التامة. وهذا العجز في الهيولى ربما كان كثيراً وربما كان يسيراً وبحسب قوتها على قبول الصور يكون حسن موقع ما يحصل فيها من النفس فإذا المادة الموافقة للصورة تقبل النقش تاماً صحيحاً والمادة التي ليست بموافقة تكون على الضد. والمثال في ذلك أن الطبيعة إنما تعمل من المادة عند تجبيل الناس في الرحم الفطس في الأنف والزرقة في العينين والصهوبة في الشعر وبحسب قبول الهيولى الموضوعة لها لا لأنها تقصد الصور الناقصة بل تقصد - أبداً - الأفضل ولكن المادة الرطبة تأتي إلا قبول ما يلائمها وذلك أن الدعج في العين والشمم في الأنف صور تحتاج إلى اعتدال المادة بين الرطوبة السيالة واليبوسة الصلبة ولا يمكن إظهارها في المادة الرطبة كما لا يمكن صياغة خاتم من شمع ذائب. وربما كانت المادة حاجزة من طريق الكمية دون كيفية فلا تتم الخلقة على أفضل الهيئات. وكذلك الحال في شعر الرأس وأهدب العين والحاجب فإنها لا تنتقش على ما ينبغي إذا كانت ناقصة المادة أو غير معتدلة في الكيفيات فتعمل الطبيعة منها ما يمكن ويتأتى فتجىء الصورة غير مقبولة عند النفس لأنها لا تطابق ما عندها من الكمال. فأما وأنت تتأمل ذلك من طين الختم فإنه إذا كان ناقص الكمية غير مقدار الخاتم أو يابساً أو رطباً أو خشناً - نقصت صورة الخاتم ولم يقبل النقش على التمام والكمال. فأما المثال في المادة الموافقة فهو بالضد من هذا المثال فلذلك تقبل ما تعطيها الطبيعة على التمام وتنتقش نقشاً صحيحاً مناسباً مشاكلاً لما في النفس فإذا رأتها النفس سرتها لأنها فكما أن الصناعة تقتفي الطبيعة فإذا صنع الصانع تمثالاً في مادة موافقة فقبلت منه الصورة الطبيعية تامة صحيحة: فرح الصانع وسر وأعجب وافتخر لصدق أثره وخروج ما في قوته إلى الفعل موافقاً لما في نفسه ولما عند الطبيعة - فكذلك حال الطبيعة مع النفس لأن نسبة الصناعة إلى الطبيعة في اقتفائها إياها كنسبة الطبيعة إلى النفس في اقتفائها إياها. ثم إن شاء من شأن النفس إذا رأت صورة حسنة متناسبة الأعضاء في الهيئات والمقادير والألوان وسائر الأحوال مقبولة عندها موافقة لما أعطتها الطبيعة - اشتاقت إلى الاتحاد بها فنزعتها من المادة واستثبتها في ذاتها وصارت إياها كما تفعل في المعقولات. وهذا الفعل لها بالذات له تتحرك وإليه تشتاق وبه تكمل إلا أنها تشرف بالمعقولات ولا تشرف بالمحسوسات. فإذا فعلت النفس ذلك واشتاقت إلى الطبيعيات والأجسام الطبيعة - رامت الطبيعة في الأجساد من الاتحاد ما رامته النفس في الصور المجردة فلا يكون لها سبيل إليه لأن الجسد لا يتصل بالجسد على سبيل الاتحاد بل على طريق المماسة فتحصل حينئذ على الشوق إلى المماسة التي هي اتحاد جسماني بحسب استطاعتها. وهذا من النفس غلط كبير وخطأ عظيم لأنها تنتكس من الحال الأشرف إلى الحال الأدون وتتصور بصورة طبيعية منها أخذت وبها ابتديت وتفوتها الصور الشريفة العقلية التي ترتقي بها إلى الرتبة العليا والسعادة العظمى. وهذا الذي ذكرته هو الأمر الذاتي الكلي الجاري على وتيرة طبيعية تحصرها الصناعة وتضبطها القوانين. فأما الاستحسان العرضي والجزئي - أعني ما يستحسنه شخص ما بحسب مزاج ما - فهو أيضاً لأجل نسبة ما ولكنه يصير شخصياً والأمور الشخصية لا نهاية لها فلذلك لا تنحصر تحت صناعة ولا لها قانون. والذي ينبغي أن يعلم منها أن كل مزاج متباعد من الاعتدال تكون له مناسبات نحو أمور خاصة به ويخالفه المزاج الذي هو منه في الطرف الآخر من الاعتدال حتى يستقبح هذا ما يستحسن هذا وبالضد وكذلك ما تقيده العادات والاستشعارات وهو موجود في استلذاذ المأكول والمشروب فإن الأمزجة البعيدة من الاعتدال تناسب طعوماً غريبة وتستلذ منها طرائف وعجائب. والاستقراء يفيدك كل عجيبة وطريفة من هذا النحو في الروائح والسماع وجميع الحواس. فيأتي بالفلق والداهية حتى يدع الشعر مشقوقا والغيث مرهوقاً فإذا انفرد بشأنه وانتصر وتعقب غاية منافعة عاد كسراب بقيعة لا يحلى ولا يمر حتى يفتضح عند من كان يثني الخنصر عليه بنكره ودهائه ويشير إلى صواب رأيه ما الذي أصابه ونزل به وما الذي بدله وتحيف عليه وما هذا الأمر الذي وسمه بما وسمه وأداه إلى ما أداه. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: سبب ذلك شيئان: أحدهما محبة الإنسان ذاته وتخوفه على نفسه من خطإ ينسب إليه أو غلط يقع منه فتعرض له الدهشة والحيرة. والآخر ميله إلى الهوى والهوى عدو العقل والخطأ - أبداً - مع الهوى فإذا حضر الهوى غاب العقل وحيث يغيب العقل يغيب الخير كله فالإنسان - أبداً - أسير في يد الهوى والهوى يريه ما يقبح جميلاً والخطأ صواباً. ولإحساس الرجل المميز الفاضل بذلك منه لا يأمن أن يكون رأيه لنفسه من قبل ما يريه الهوى دون العقل فيضطرب فكره ولا يصح رأيه لنفسه. فأما إذا رأى لغيره فهو سليم من الحالين جميعاً فلذلك يأتي بالرأى الصحيح السليم كالقدح وربما كان له هوى في غيره أيضاً فيعرض له من الخطأ مثل ما عرض له في نفسه. وهذا يدلك على صحة ما ذكرناه من السبب في خطئه على نفسه وسداده في أمر غيره. وإذا احترز العاقل لنفسه أيضاً وتجنب الهوى - صح رأيه لنفسه وقل خطؤه إلا بمقدار ما جبل عليه المرء من محبة نفسه واشتباه الهوى في بعض المواضع اللطيفة بالرأى الصحيح فإنه حينئذ يغلط غلطاً يعذر فيه ويسلم من تبعته.
ويتعلل بغيره وكلما اشتد نفوره منه اشتد ولوعه به ما هذا أيضاً فإنه باب آخر في طي التعجب مما تقدم وفي المسألة: أن المعالج يباشر ذاك بعينه نظراً وبيده علاجاً وبلسانه حديثاً أترى ذاك من المعالج إنما هو لضراوته وعادته وطول مباشرته وملاحظته أم لمكسبه وحاجته وعياله ونفقته فإن كان للضراوة والعادة فما خبره في ابتداء هذه الضروة والعادة وإن كان لحرفته فكيف عاند طباعه معاندة وجاهد نفسه مجاهدة وهل يستوى للإنسان أن يعتاد ما ليس في طبعه ولا في عادته ثم يستمر ذلك عليه ويكون كمن ولد فيه وعمر به. الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين في المباحث الفلسفية أن النفس بالحقيقة واحدة وإنما تكثرت بالأشخاص وإذا كان ذلك كذلك فالإنسان إذا رأى بغيره أمراً خارجاً عن الطبيعية من جرح أو تفاوت في الخلق أو من نقص في الصورة - عرض له من ذلك ما يعرض له في ذاته وكأنه ينظر إلى نفسه وجسمه لأن النفس هناك هي بعينها النفس ههنا فبحق ما يعرض هذا العارض. فأما ولوعه به وحضوره في ذكر أبداً فإنما ذلك لأجل أن النفس إذا قبلت صورة نزعتها من مادتها واستثبتتها في ذاتها وقيدت عليها قوة الذكر. وليس تجري النفس مجرى المرآة التي إذا قابلها الشيء قبلت صورته ما دام ذلك الشيء قبالتها فإذا زال زالت صورته عنها ولا كناظر العين في قبول الصور أيضاً وذلك أن هذه أجسام طبيعية تقبل صورة الأجرام قبولاً عرضياً فأما النفوس فإنها تقبل الصور بنوع أشرف وأعلى ثم تستثبت تلك الصورة وإن زال حاملها عن محاذاة العين. وقد مر في هذه المسائل طرف من هذا المعنى وبين هناك كيف تقبل النفس بقوتها المتخيلة صورة الشيء سريعاً وكيف تبقى بعد ذلك هذه الصورة في قوتها الذكرية حتى تراها مناماً ويقظة فإنا متى شئنا أحضرنا صور آبائنا وأجدادنا ومدننا حتى كأننا نراهم وإن كانوا غائبين فأما لم ذلك وكيف استقصاء الكلام فيه فموجود في مظانه. وأما المعالج لما سألت عنه المعتاد به بالضراوة فإنما كان ذلك لأجل تكرر الصورة وأن ذلك الفعل صار كالخلق له. وقد بينا فيما تقدم أن الصور إذا تكررت على النفس حصل منها شيء ثابت كالجوهري لها وقلنا إنه لولا هذه الحال لما أدبنا الأحداث ولا دعونا الصبيان في أول نشوئهم العادات الجميلة فإن الأفعال إذا اتصلت ودامت ألفتها النف سواء كانت حسنة أو قبيحة. فإذا استمر الإنسان عليها صارت ملكة له وقنية فعسر زوالها.
مسألة ما العلة في حب العاجلة ألا ترى الله - تعالى - يقول: ومن أجل هذا المعنى ثارت الفتن واستحالت الأحوال وحارت العقول واحتيج إلى الأنبياء والسياسة والمقامع والمواعظ فإذا كان حب العاجلة طباعاً ومبذوراً في الطينة ومصوغاً في الصيغة فكيف يستطاع نفيه ومزايلته وكيف يرد التكليف بخلاف ما في الطبيعة أليست الشريعة مقوية للطبيعة أليس الدين قوام السياسة أليس التألة قضية العقل أليس المعاد نظير المعاش فكيف الكلام في هذا الشق وكيف يطرد العتب على من أحب ما حببت إليه وقصرت همته عليه كما خلق ذكراً أو أنثى أو طويلاً أو قصيراً أو ضريراً أو بصيراً أو جلفاً أو شهماً فإن سقط اللوم في إحدى الحاشيتين سقط في التي تليها وإن لزم في إحداهما لزم في أخرهما. وهذا نظر ينسل إلى الجبر والاختيار وهما فنان يحتاجان إلى تحديد نظر وتجديد اعتبار. والحال المقسمة للبال من قضاء الوطر وبلوغ الغاية فقي النظر. الجواب: قال أوب علي مسكويه - رحمه الله: العاجلة إنما يومأ بها إلى الحواس وتوابعها من اللذات في المآكل والمشارب والاستفراغات والاستراحات. والتي تختص بهذه الأشياء من الحواس هي النفس البهيمية. ثم ينبغي أن تعلم أن هذه النفس هي معنا من أول النشوء ومع الولادة فقد ألفناها إلفاً قوياً مع الزمان المتصل الطويل فلذلك كانت قوتها أظهر وغلبتها أشد وصار الحكم لها. وإنما نظرنا النفس المميزة بقوة العقل من بعد فيظهر أثرها قليلاً قليلاً إلى أن يقوى في وقت التكهل والاجتماع وبلوغ الأشد فنحن نحتاج لذلك إلى مقاومة تلك النفس والاستعداد لها وكسر حدتها وإيهان قوتها بكلفة شديدة وصبر طويل بحسب قوتها واستيلائها علينا وإلفنا إياها ونحتاج أيضاً إلى تقوية النفس الناطقة بامتثال أمرها وتثميرها وتنفيذ عزائمها فلأجل هذا صعب علينا قبول أمر هذه وسهل قبول أمر تلك. فأما قولك: كيف يرد التكليف بخلاف ما في الطبيعة فإنا نقول: إن طبيعة النفس البهيمية الانقياد للنفس الناطقة والوقوف عند أمرها. ولولا أن ذلك في جلبتها وسوسها وهو قبول التأديب وأن تصدر أفعالها الخاصة بها بحسب ما يأمرها به العقل - لكان - لعمري - تكليفاً بخلاف ما في الطبع ولكن أحداً لا يروم إبطال هذه القوة رأساً بل يطالبها بأن تقبل ترتيب الأفعال على ما يرسمه العقل وهي مطبوعة على قبول هذا الأدب كما قلنا. وليس يجري هذا مجرى ما ضرب به المثل من الطول والقصر وغيرهما لأن هذا شيء لا صنع فيه للأدب وإنما هو أثر يقبل الهيولى من المعطي بحسب موضوعه ولا يمكن خلافه بوجه ولا سبب. وتفسير ذلك أن الرطوبة التي في المادة تقبل من الحرارة امتداداً وانجذاباً إلى العلو الذي هو حركة ولا يمكن أن يكون إلا على ما يظهر بالفعل. فقد بان الفرق بين هذين النوعين اللذين رمت الجمع بينهما وظهر السبب في حب العاجلة وحسن ما أدب الله - تعالى - به الناس بالدين والآداب وخرج الجواب عن المسألة في إيجاز وإيضاح.
|